الحروب والاضطرابات تعصف بالشرق الأوسط، والصين تواصل طموحاتها التجارية.. وها هي الحكومة المنبثقة عن البرلمان الألماني تسقط. هذا النوع من التقاء الأحداث العالمية سينظر إليه المؤرخون لاحقاً ليلاحظوا وقوعه بينما تبدو مرساة الغرب الأميركية غير قادرة أو غير مهتمة بالحفاظ على ثبات السفينة. سقوط الائتلاف الحاكم في برلين بقيادة الاشتراكي الديمقراطي أولاف شولتز مؤخراً يُعد من بعض النواحي أمراً يتعلق بألمانيا فقط. لكن لدى متابعتي لتغطية التلفزيون الألماني حول تصويت «البوندستاغ» لإسقاط حكومة شولتز، ذهلتُ بالمدى الذي كان الألمان فيه ينظرون إلى الخبر باعتباره تأكيداً لقولَين مأثورين في الحياة السياسية الأميركية: «السياسة كلها محلية» و«إنه الاقتصاد يا غبي». وإذا اتخذتَ التغطية الألمانية دليلاً لك، فإن هذا الانهيار يتعلق بالتهديدات بتقليص المعاشات التقاعدية ومزايا الرعاية الاجتماعية بشكل أساسي. غير أنه وراء هذا التهديد يوجد قلقٌ ألماني كلاسيكي ودائم: الخوف من أنه لم يعد ممكناً التعويل على الاستقرار الذي تُحسد عليه البلاد، وهو ما ينقلنا رأساً إلى الصورة الأكبر. فمنذ الحرب العالمية الثانية، كان دور الولايات المتحدة في أوروبا هو توفير الأمن، ضد الاتحاد السوفييتي. ويمكن القول، إنه لا يوجد بلد آمن بالتجربة الأوروبية وبقيمة القيادة الأميركية وصلاحها أكثر من ألمانيا. كما أنه من قبيل المعجزات التاريخية أن استمرار ديمقراطية ألمانيا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية كان مستوحى ومفروضاً ومدعوماً جزئياً من قبل البلد الذي حوّل معظم ألمانيا إلى أنقاض. والواقع أنه في كل عقد منذ تلك الحرب، كانت أصوات التطرف اليميني تُسمع عقب كل تراجع أو انخفاض في حظوظ البلاد الاقتصادية أو السياسية. غير أن الألمان، قبل إعادة توحيد الشرق والغرب إثر سقوط جدار برلين عام 1989، وبعد ذلك، كانوا يضعون ثقتهم وجهودهم باستمرار في فلسفة «الاستقرار فوق الجميع». والآن، أخذ اليمين المتطرف يصعد إلى الواجهة من جديد، على شكل حزب سياسي معادٍ للمهاجرين، أي حزب «البديل من أجل ألمانيا».
هذا الصعود يحدث في الوقت الذي فقد فيه الحزبان الرئيسان، «الحزب الديمقراطي المسيحي» المحافظ و«الحزب الاشتراكي الديمقراطي» اليساري رؤيتَيهما الواضحتين للمستقبل، وهو ما أدى إلى تفكك قواعد دعمهما التقليدية. غير أنه من دون أوروبا موحدة بشكل معقول، فإن القدرة الأميركية على مواجهة الصين وروسيا ستصبح مقيّدة جداً.
قد يتمكن الألمان من تشكيل ائتلاف حاكم جديد خلال الشهرين المقبلين. لكن لا يوجد سبب وجيه للاعتقاد بأن الانتخابات ستُنتج فكرة واضحة عن الاتجاه الذي تسير فيه البلاد. لقد اكتشفت المستشارةُ السابقة، أنجيلا ميركل، في سنوات حكمها الأخيرة، أن الألمان حريصون على تقديم أنفسهم للعالم كقوة من أجل السلام والمساواة، غير أنهم ليسوا مستعدين للمجازفة بأمنهم الاقتصادي من أجل استقبال اللاجئين لدرجة قد تغيّر الطابع الأساسي لبلدهم. ولئن كانوا ملتزمين بالسيادة الأوكرانية، فإنهم غير مستعدين لاستفزاز الدب الروسي. وخلاصة القول هي أن انهيار الحكومة الألمانية يأتي في لحظة حرجة بالنسبة للعالم.وإذا كان الألمان يميلون للاعتقاد بأنهم يعتمدون على القوة الأميركية كثيراً، فعلينا نحن الأميركيين إدراك أننا نحتاج كذلك لقوتهم.
مارك فيشر*
- كاتب وصحافي أميركي
- ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسنسينج آند سيندكيشن»